إسماعيل أدهم (1911-1940) ناقداً منسياً في عبقرية أمراضه...
إذا كان النقد العربي توزع بين النظرية البلاغية من جهة والنظرية الأدبية من جهة أخرى. فإن النظرية الأولى خلقت لنا مؤرخي الأدب والحادثة التاريخية، ومفسريه وشارحيه، ومحللي الأجناس الأدبية، ومستوردي المناهج الجاهزة بينما دفعت النظرية الثانية إلى منطق اللغة والمعنى بأن النتيجة لا تسبق السبب. فاعتنوا بالعملية الإبداعية، بوصف أن معظمهم مبدعون ومبدعات، فاقترحوا اتجاهاتهم وخياراتهم بناء على وعيهم الفردي ورؤاهم وطموحاتهم. ولعل نشأة النقد الذي عاصر أدب النهضة غائمة إلا من بعض الأسماء المكرسة لأسباب أكاديمية، وهذا منها وهناك أسباب تروجها الحاجة الإعلامية في المحافل الثقافية المختلفة.
غير أن ما يمكن أن يرصد لأول ناقد عاصر أدب النهضة بل فتح الباب على مصراعيه لأبي الشعر النهضوي محمود سامي البارودي هو حسين المرصفي (1915-1890) الذي وضع كتاب الوسيلة الأدبية (1878) الذي درس به محمود سامي البارودي في شعره وعبد الله فكري في نثره. وهو ما دفع من خلال تكريس أهمية البارودي عنده لتأثره باستعادة ذورة النماذج الشعرية الممثلة في أبو نواس والشريف الرضي وأبو فراس الحمداني إلى استلهامها من قبل الشعراء اللاحقين أمثال إسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم.
ويمكن أن يحسب للنقد بداياته التجديدية مواكبة للتجديد الشعري عند عبد الرحمن شكري (1886-1958) الذي قدم كتابه النقدي "الثمرات (1915)" بالإضافة إلى مقدمات دواوينه منذ أولها "ضوء الفجر"(1909)، ويلحق به من النقاد إبراهيم المازني (1890-1949) الذي أصدر كتيباً صغيراً بمثابة البيان النقدي الأول له بعنوان " الشعر : غاياته ووسائله(1915)"، وهذا قبل أن ينجز مع زميله عباس محمود العقاد(1889-1964) كتابهما النقدي "الديوان (1921)"الذي انتقدا فيه أعمال أدبية لأحمد شوقي ومصطفى المنفلوطي وعبد الرحمن شكري.
وهذا الكتاب ألهم ميخائيل نعيمة (1889-1988) أن يجمع مقالات نشرها في كتاب وضع مقدمته العقاد نفسه وصدر بعنوان "الغربال (1923)"، وهذا ما دفع محمد حسن عواد(1902-1980) إلى أن يصدر كتابه النقدي الأول "خواطر مصرحة(1924)".
وقد قدم محمد حسين هيكل (1888-1956) كتابه "ثورة الأدب(1925)" دارساً الشعر والقصة، ورغم أن يحيى حقي (1905-1987) كتب مقالات ودراسات نقدية كثيرة منذ عام 1927 حتى عام 1960 جمعها في العام التالي بكتاب أسماه" خطوات في النقد (1961)" إلا أن محمد مندور(1907-1965) كرَّس مساره الثقافي ناقداً منذ البداية من خلال كتابيه "نماذج بشرية (1941)، في الميزان الجديد (1944)".
ومن خلال ما سبق يكون تاريخ النقد العربي بنى صورته الأولى غير أنها ستكون ناقصة عندما لا نضيف ناقداً متمصراً من أصل تركي- ألماني أسهم في أكثر من مجال فيزيائي وتاريخي وفكري عبر بحوثه ودراساته وكتبه، وهو إسماعيل أدهم الذي ذاع صيته بسبب نشر كتابه "من مصادر التاريخ الإسلامي (1936)"، وهو جزء من كتاب أعده للنشر"حياة محمد ونشأة الإسلام"، ومقالته " لماذا أنا ملحد" (1937) التي بسببها أقفلت مجلة الإمام التي نشرتها.
ولعلي أذكر أنه بسبب نشر فصل من الكتاب –أي: من مصادر التاريخ الإسلامي- ضاق الأزهر به، وطالب الحكومة ممثلة بمجلس الوزراء أن يصادره، ويحيل المؤلف إلى التحقيق الذي ما لبث أن حفظ لكونه ليس مصري الجنسية على عكس ما حدث لكل من منصور فهمي " أحوال المرأة في الإسلام (1913)"، وطه حسين "في الشعر الجاهلي (1927)"، وعلي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم(1925)"، وعبد الله القصيمي "البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية (1931)" حيث انتكهت حقوقهم بشكل معتسف من إحالة إلى التحقيق والإيقاف أو الفصل من العمل أو الدراسة عوضاً عن التشنيع الإعلامي المنظم.
ولا يستغرب أن يكون أحد منتسبي الأزهر يوسف الدجوي "زعيم التضليل والجهل" من قاد هذه الحملات المسعورة ضد كل هؤلاء، فلعلنا لا ننسى في عصرنا من كان وراء قتل فرج فودة ونجيب محفوظ أو تفريق نصر حامد أبو زيد عن زوجته أو تهديد نوال السعداوي وسيد القمني.
غير أن شخصية العالم الفيزيائي والباحث التاريخي في الأديان غيبت شخصية الناقد الأدبي لأدهم، فهو حين كلف من كلية الآداب التركية التابعة لجامعة اسطنبول لدراسة التاريخ الإسلامي والأدب العربي بين عامي 1936-1940 قد نشط في دراسة الثقافة العربية مطلع القرن العشرين حيث اختار مجموعة من المثقفين وأعمالهم الأدبية والفكرية، وهم : إسماعيل مظهر وتوفيق الحكيم وطه حسين ويعقوب صروف كذلك اهتم بدراسة شعراء عرب : خليل مطران وجميل صدقي الزهاوي وأحمد زكي أبو شادي وميخائيل نعيمة (دراسة غير مكتملة نشرت بعد وفاته) بالإضافة إلى الشاعر التركي عبد الحق حامد(كتيب نشر بعد وفاته).
وهو في هذه الدراسات حقق ما تجاوز المناهج النقدية التفسيرية والتقييمية والإيديولوجية التي وضعت من قبل النقاد السابقين معتمداً على المنهج التاريخي والنفسي والاجتماعي في صورة دراسات ثقافية.
هذه الدراسات النقدية تقدم لنا ناقداً كبيراً ظلمه تسليط الضوء على مجال واحد من مجالات اهتمامه العلمية والفكرية حين أوقفت شهرته على فصل نشر من كتاب عن تاريخ الإسلام وحياة نبيه، ومقالة كان بها يجيب على محاضرة صديق أحمد زكي أبو شادي عن الإيمان والإلحاد.
وإذا عرفنا لأدهم أن الإنتاج العلمي والتاريخي والنقدي لم يكن سوى بين عامي 1933-1940 غير أنه متنوع بين الفيزياء والتاريخ والأدب وغزير هذا غير ترجماته ومراجعاته والمخطوطات التي كان يعدها بالعربية والألمانية والانجليزية فأدعى ذلك إلى الانبهار بهذه العبقرية المنفلتة من تاريخ الذاكرة الثقافية العربية.
ويمكن – قبل استعراض دراساته- أن نلحظ بعد قراءتها المسبقة الملاحظات الآتية:
- اعتماد المنهج التحليلي التاريخي والنفسي والاجتماعي.
- اعتماد المنهج المقارن بين الأدب العربي والأوروبي.
- الوعي بمكونات الحضارة والروح العربيين.
- الموقف الشعوبي أو التعالي على الآخر.
- الصدام بين المنطق الرياضي والإبداعي.
وهو من خلال دراسته خصائص الأدب العربي يرصد بأنه أدب ذاتي، وتجريدي ، ولفظي. ويرى أن ما اصطلح عليه من أدب النهضة أو الإحياء هو "إخصاب بعد جدب" بسبب القطيعة بين عصور الأدب العربي من بعد نهاية العصر العباسي بعد توالي عصور الأعاجم من المملوكي والأيوبي والمغولي والعثماني. غير أن "قوة الفكر الفردي" كانت وراء نشوء " المدرسة الرومانتيكية" في الأدب.
وقد رأى أن هناك مدرستان قديمة يمثلها استعادة العصر العباسي عند محمود سامي البارودي وإسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وأخرى جديدة ترجع إلى الأدب الأوروبي ويمثلها خليل مطران وعبد الرحمن شكري وأحمد زكي أبو شادي.
حيث وضع عن أبو شادي الشاعر وعالم النحل والصحفي – وهو صديقه- ( نشرت في مجلة أدبي عام 1936) حيث كان أدهم محرراً في المجلة، فهي تكشف عن انتصاره إلى النزعة الفردية والمنطق العلمي التي كانت وراء الاتجاه التجديدي بينما أنكر أبو شادي مقولاته النقدية باعتباره أن التجديد هو سمة الإنسان المتحضر كما أن اللغة تنقل معارف مختلفة ليس بالضرورة معارف أهل اللغة ذاتها.
وقد وصف شعره بأنه يمثل ثلاثة أنماط : الشعر التصويري والوصفي، والعاطفي، والقصصي. غير أنه ينتهي إلى أنه يعجبه أبو شادي ناثراً لا ناظماً. وقد رأى أن التطور السياسي في العراق دفع بالتطور الاجتماعي والثقافي مخالفاً للوضع في لبنان ومصر. ففي دراسته عن الشاعر جميل صدقي الزهاوي (نشرت في كتيب صدر عن مجلة الإمام عام 1937) التي قدم لها دراسة مستفيضة عن مقدمات تطور تاريخ الأدب العربي والمتغيرات الحضارية التي أسهمت في تحولاته.كذلك عن تاريخ العراق السياسي الذي انعكس اجتماعياً وثقافياً على المجتمع العراقي.
ورأى أن الزهاوي ضاحب منطق علمي في كتابيه "الكائنات(1896)، تعليل الجاذبية (1908)"، وهو آمن بنظرية التطور ما جعله يمثل الداروينية العربية التي أسسها شبلي الشميل، وهذا ما دفعه إلى مبدأ التساوي بين الجنسين، ومطالبته بتحرر المرأة، ورحلته الفكرية من الشك إلى التصوف في أشعاره، وأبرز دراسة ملحمته الشعرية " ثورة الجحيم"(1929) وقارنها بين رسالة الغفران للمعري، وأعمال الشاعر التركي عبد الحق حامد في دواوينه" مقبر ، بالادن برسس، أولو"، وفيكتور هيغو في ديوانيه " نزعات الشيطان، الله ".
وفي دراسته عن خليل مطران (نشرت بواقع 13 حلقة في مجلة المقتطف 1939-1940) رأى فيه شاعراً ثار على المدرسة الإتباعية بوضع أسس المدرسة الإبداعية، وهي ثورة المضمون لا الشكل. وهذا ما دفع مطران إلى تكريس الشعر التصويري والقصصي. وقد رأى فيه من خلال دراسة نفسية لشخصيته بأنه شخص لم يحمل عقداً من فترة الطفولة ما ألهم شخصيته ضبط النفس. وقد درس من خلال هذه الحلقات ترجماته لشكسبير وراسين وكوريل، وصناعته الفنية، ووظيفة الخيال في شعره، وتعامله مع البحور الشعرية، ورأى فيه "مثالاً عالياً لمنحى متميز في الأدب العربي الحديث".
وأما دراسته لميخائيل نعيمة ( نشرت غير مكتملة في مجلة الحديث 1944) بوصفه ناقداً وقاصاً ومترجماً ومفكراً جعلته يرصد في شخصيته حالة الاضطراب جراء الكبت الجنسي بسبب تربيته الريفية المحافظة التي انتقلت به إلا مبدأ وحدة المتناقضات، واحتفاظه بروح المراهق رغم كبره. واستطاع أن يخلط بين أكثر من معتقد مسيحي أرثوذكسي وإسلامي صوفي وبوذي ليكون مساره الفكري وينتج إبداعياً بشكل متنوع بين الشعر والقصة والمسرح والكتابة التأملية غير أنه ظل يمثل تياراً جانبياً للتيار الرئيسي في إبداع أعضاء الرابطة القلمية الذي يمثله بشكل مطلق جبران خليل جبران.
وقد درس من آثاره كتابه القصصي"الغربال(1923)، مذكرات الأرقش (1921)، كان ياما كان(1932"، ورأى فيه ناقداً يراوح بين النقد الذاتي والموضوعي، وكشفت قصصه عن روح تبحث عن الطمأنينة ولا تجدها.
وفي المنتهى تكشف لنا هذه الدراسات بالإضافة إلى دراساته الأخرى عن المفكر إسماعيل مظهر والناقد طه حسين (نشرتا في مجلة الحديث 1938)، والمسرحي يعقوب صروف (نشرت في مجلة المقتطف 1938)، وتوفيق الحكيم (نشرت بعد أن أكملها إبراهيم ناجي بعد وفاة أدهم في مجلة الحديث 1945) عن باحث تاريخي وناقد أدبي يحمل ذوقاً جمالياً وذهنية علمية ونزعات تعال حضارية وجموح يسابق الزمن غير أن أمراضه ستودي به إلى الانتحار.
إنه ناقد ولد كبيراً ومات عبقرياً. وتحول إلى مجموعة من الأعمال الكاملة صدرت بما يقارب الألفين صفحة بالعربية عن دار المعارف (1984-1986)غير ألف أخرى بالتركية والألمانية والانجليزية والروسية بعضها مطبوع وأكثرها مخطوط. كل هذا كان في أقل من عقد.
[تنشر ”جدلية“ فصل من كتاب ”سيادة الكلام: في فعالية النقد“ للكاتب السعودي أحمد الواصل، الذي خص مجلة ”جدلية“ بهذا الفصل عن الناقد المصري إسماعيل أدهم. كانت جدلية قد نشرت فصل آخر من الكتاب للاطلاع عليهاضغط/ي هنا. "كتب" هي سلسلة على صفحات "جدلية" نستضيف فيها المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بفصل من الكتاب.]
[”سيادة الكلام: في فعالية النقد“ تأليف أحمد الواصل. صدر عن منشورات ضفاف/لبنان مع منشورات الاختلاف/ الجزائر ودار الأمان/ المغرب. سنة النشر: 2013.]